مطلوب.. بالجُرم المشهود!
مطلوب.. بالجُرم المشهود!
خلال العقود الماضية، كان السعي لتحقيق العدالة الدولية في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية يُركز على القيادات السياسية والعسكرية العليا. «الجنائية الدولية» طلبت في نوفمبر الماضي اعتقال نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف جالانت.
قبل ذلك، صدرت أوامر اعتقال ضد رؤساء دول سابقين وحاليين، بحسب خبراء القانون، من السهل توثيق الأدلة ضدهم بالقياس إلى الجنود العاديين، كما أن القضايا الخاصة بهم تُحقق أكبر قدر من التأثير، لكن التكنولوجيا غيرت المعادلة وأصبح متاحًا جمع أدلة ضد الجنود أيضًا، وهذا أحد أهم تداعيات العدوان الإسرائيلي الهمجي على غزة. لم يعد أحد، مهما كانت رتبته العسكرية متدنية، بعيدًا عن الملاحقة والعقاب.
جنود الاحتلال لم يكتفوا بالقتل والتدمير والتمثيل بالجثث، بل كانوا يستعرضون ساديتهم وعنصريتهم بنشر مقاطع فيديو وصور تُوثق جرائمهم. يوفال شاني، أستاذ القانون الدولي بالجامعة العبرية الإسرائيلية، خاطب جنود الاحتلال قائلًا: «إن مجرد قيامك بتحميل مقاطع فيديو، وأنت تدمر منازل أو ممتلكات أو تدعو إلى طرد الفلسطينيين وإبادتهم، يجعل محاكمتك في دولة تبعد عن إسرائيل آلاف الأميال ممكنة».
وأضاف، لصحيفة نيويورك تايمز: «بعض الفيديوهات سيئ للغاية بحيث يمكن عقد محاكمة على أساسه». خلال الأيام الماضية، واجه جنود إسرائيليون وجنود احتياط مواقف جديدة تمامًا عليهم خلال سفرهم إلى الخارج للسياحة.
في البرازيل، أمر قاضٍ فيدرالي الشرطة بالتحقيق مع جندي إسرائيلي بشأن ارتكابه جرائم حرب في غزة، فما كان من إسرائيل إلا أن سارعت بإخراجه من البلاد في الظلام وعلى جناح السرعة. جنود آخرون تعرضوا لمواقف مماثلة أو جرى تحذيرهم من نفس المصير خلال سفرهم إلى قبرص وسريلانكا والأرجنتين وفرنسا وبلجيكا.
جمعية «هند رجب» البلجيكية، التي أسسها نشطاء فلسطينيون وآخرون داعمون للحقوق الفلسطينية، رفعت دعاوى قضائية معتمدة على آلاف الفيديوهات والصور التي تم جمعها من السوشيال ميديا ومصادر حقوقية أخرى لتحقيق العدالة لضحايا المجازر الإسرائيلية.
لدى الجمعية -التي حملت اسم طفلة، (5 سنوات)، استُشهدت، في يناير الماضي، بنيران دبابة إسرائيلية، بينما كانت في سيارة مع أسرتها في غزة- قائمة بأسماء ألف جندي من مزدوجي الجنسية شاركوا في عدوان غزة.
إنها طريقة جديدة لتحقيق العدالة الدولية وكسر دائرة الإفلات من العقاب. طريقة تجمع بين وسائل التواصل والسياحة، كما تستند إلى قوانين قديمة للغاية تحت عنوان الولاية القضائية العالمية، التي تنص على أن بعض الجرائم من الخطورة بحيث يمكن لأي دولة محاكمة مرتكبيها.
في القرن الـ18، جرى استخدام تلك القاعدة القانونية ضد القراصنة. إسرائيل نفسها، التي تتبجح بأن ما يحدث معاداة للسامية وتواطؤ دولي لحرمانها من الدفاع عن نفسها، استخدمتها عندما اختطفت من الأرجنتين في مايو 1960 المسؤول النازي أدولف أيخمان وحاكمته وأعدمته بتهم ارتكاب جرائم حرب ضد الإنسانية خلال ما يسمى المحرقة.
إسبانيا أيضًا اعتمدت عليها عام 1997 للمطالبة بتسليم أوجستو بينوشيه، ديكتاتور تشيلي، خلال السبعينيات لمواجهة تهم التعذيب وجرائم أخرى، دول أوروبية عديدة حاكمت بعض مسؤولي نظام الأسد السابق اعتمادًا على القاعدة ذاتها.
قد لا تكون الأدلة المستندة إلى «وثائق» منشورة على مواقع التواصل كافية في حد ذاتها لضمان محاكمة ناجحة للمتورطين في الجرائم، لكن ما يترتب على استخدام تلك الوسيلة أمر شديد الإيجابية لبث الرعب في قلوب الجنود والمسؤولين الإسرائيليين، الذين يعتقدون أنهم فوق التوقيف والمحاكمة.
الخارجية الإسرائيلية أصدرت تحذيرات للإسرائيليين عامة والجنود خاصة بعدم بث منشورات وفيديوهات يمكن استخدامها لاتخاذ إجراءات قانونية ضدهم في بلدان أخرى، أي أنها تقول للجنود لا تنشروا جرائمكم «القذرة» على الملأ. إلا أن الضرر حدث بالفعل.
هناك عشرات آلاف مقاطع الفيديو والصور والأحاديث لإسرائيليين من أعلى مسؤول سياسي وحتى الجنود العاديين يتفاخرون ويحرضون، وبعضهم يستعرض إجرامه وقتله للفلسطينيين.
لي مردخاي، المؤرخ الإسرائيلي البارز، نشر كتابًا من ١٢٤ صفحة، وأورد فيه ١٤٠٠ مرجع ووثيقة عن جرائم الحرب المرتكبة في غزة، شهود عيان ولقطات فيديو وصور وأدلة ونصوص تحقيق، فيما يُعتبر الوثائق الأكثر منهجية لتوثيق الجرائم حتى الآن، تفاصيل مذهلة ومرعبة. جنود يقتلون أطفالًا وعائلات.. عمليات دهس بالدبابات للسجناء والجثث.
«مردخاي» قال، لصحيفة هآرتس: «شعرت أنني لا أستطيع الاستمرار بالعيش في فقاعتي الخاصة بينما الأمر يتعلق بحياة أو موت. ما يحدث كثير جدًّا، ويتناقض مع كل القيم».
إسرائيل تستخدم التكنولوجيا في قتل الفلسطينيين وتحويل حياتهم إلى جحيم، لكن التكنولوجيا أيضًا تساعد في ضبطها بالجُرم المشهود وتضعها في قفص الإدانة الدائمة. إنها سخرية القدَر.
*نقلاً عن صحيفة “المصري اليوم”